وداعا أيتها الصغيرة من آل سليم

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
16/02/2008 06:00 AM
GMT



                  

منذ عشرين عاما كانت نزيهة سليم تمشي وكأنها تتعثر بشيء يسقط منها .  ظلت على هذا النحو منذ ذلك الحين. هذا ما علق في ذهني منها . عرفتها دائما كبيرة في السن ، كما عرفتها محتمية بهذا المظهر . كانت قصيرة مثلي ، الى حد أنها ، وهي  التي تعرفني ولا تعرفني ، تبتسم لي وتؤشر الى رأسها . لم افهم . بسبب مرحي الكئيب كنت أخمن أنها تقول لي : مسكتك ! لا تكذب! أنت مثل خالتك؟ أمشي أمشي .. لا تهتم!

بيد انها ستتعثر بإشارتها هذه المرة ، كما في مشيتها . لا شيء يكتمل ، مثل لوحاتها الناقصة بوجه عام . لا شيء يخرج من يديها مشبعا. كانت تقلد لعبة أخيها جواد البغدادية فتصل الى أقل من نصف العاب نزار . الجميع موهوب في هذه العائلة ، حتى نزيهة التي لسبب ما فضلت أن تكون آمنة تحت خيمة الموهبة. يكفيها هذا . منذ زمن بعيد عرفت كفايتها وقدراتها من دون متاعب ولا أوهام .

وكانت – ياللغرابة - تقصر على مر الأيام، وتشيخ بطريقة انكباسية . انكباسية؟ لا أدري . جسد يضيع في السن،  لحم يموت وهو حي ، يجف بعد غليان ، يجف وينكمش ، وظيفة تتخبط . والحال إنني لم أرها في حياتي وهي جالسة . لعلي رأيتها جالسة ولم أنتبه . بيد أن نزيهة لا تكون هي نفسها إذا ما جلست . تضيع . أظن أن من عرفها عرفها وهي تتدحرج ، أو تدبي . دائما ترى كنزيهة حقا أثناء المشي ، وسوف تتعثر ، تمشي باستقامة بضع خطوات ثم تميل الى جهة غير متوقعة.  تبدو مثل الضائعة ، مثل التي نست شيئا وتريد أن ترجع ، فتستدير خلفها وتنظر الى اللأرض. ما الذي سقط منها؟ أنظر أنا الآخر ، وأجد الأرض القريبة جدا من رأس نزيهة ، من عينيها التائهتين . لا شيء . تنورتها الخضراء . أكانت تتفحص تنورتها الخضراء بطريقة من ينظر الى الأرض . تواصل التقدم الى امام ولا تنسى ضرب تنورتها بأصابعها كأنها تنفض وسخا علق عليها . أتكون قد رأت نفسها تسقط على الأرض؟

كثيرا ما ترى ما لم تره . قيل لي انها تعرف من أين تؤكل الكتف . ولكن هل تصل الى مستوى الخاصرة لكي تنوش الكتف؟ سمعت عن خوفها من اللصوص منذ بداية التسعينيات ، أي منذ الاجهاز على الطبقة الوسطى ، منذ بيع الأثاث واللوحات والفضيات لمصلحة اولاد الكلب.  مرة واحدة سمعتها وهي تردد : ثروة! ثروة! هل سرق اللصوص ما ورثه آل سليم ؟ ولكن يقال إنها تطرد العين . بغدادية . البغداديون يحبون طرد العيون ، صنعوا ما يزيد من عشرين نوعا من طاردة العيون بمواد مختلفة ولم تنفع . لا يطرد البغداديون عيون الحساد ولا بسبع عيون ، ولا بعشرة ، ولا بخمسين ، إنما هم المطرودون بأجسادهم وميراثهم وثقافتهم . متعثرون بذكرياتهم ، بلحن شارد من نافذة ، بهبة هواء ، يمشون على الجمر ، يتلفتون على أصوات الميتين ، ينكبسون . بدأوا شيئا لم يكتمل على أيديهم ، ليضيعه البورجوازيون الصغار الثورويون والتقدميون التافهون الصاخبون الفاشيون، ولتدفنه عميقا المليشيات في احتفالاتها الوحشية.

الآن ، بعد عشرين سنة ، أعرف ما تبقى : تلفتت نزيهة سليم ، غمغمت ، رسمت شارة تائهة بالفضاء ، ودخلت بأقدام واهنة الى الموت. 

وداعا أيتها الصغيرة من آل سليم . وداعا يا أختي . وداعا يا خالة !